عبقرية الغباء الترابي في مواجهة الذكاء الاصطناعي … الموت القادم من الغرب
أنظمة الذكاء الاصطناعي … الموت القادم من الغرب
من المؤكد وغير الخفي على المهتمين بمجال علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، أن التطورات الحاصلة في هذين المجالين تحدث بوتيرة سريعة ومتسارعة. ولكن يجب أن نستحضر بعض السياقات التي أطرت هاته الوتيرة بعيدا عن الأدوات التي تمثل هامشا صغيرا في علم الذكاء الاصطناعي التوليدي، التحويلي والتصويري… هي أنماط قديمة الميلاد والظهور امتدت لتسعة عقود منذ سنة 1943 مع بدايات ظهور ما اصطلح عنه بالذكاء الاصطناعي والتعليم الآلي سنة 1950، ففي الوقت الذي كان فيه العالم العربي يتطلع لمواكبة تطورات الجيل الثالث والرابع من الثورات التكنولوجية، كانت التنظيمات العسكرية والوكالات الاستخباراتية العالمية بعد الحرب الباردة تدرس خطة احتلال العالم وقيادة حروب الجيل السادس باعتماد أذكى النظم والأنظمة الخارقة التي لن تخطر على بال البشر، فماذا حصل بين مرحلة الحرب الباردة ومرحلة ما نعيشه في السنوات الثلاثة الأخيرة، آخر الإحصاءات الرقمية أكدت أن عالم الويب عرف ميلاد أزيد من 120 تطبيق وخاصية للذكاء الاصطناعي الموجه لتوليد النصوص وتحويلها إلى أيقونات وصور وفيديوهات بالإضافة إلى الترجمة وغيرها من الميزات التي أعتبرها شخصيا خدعة الهدف منها خلق نوع من الانبهار التكنولوجي استكمالا لورش الاحتلال الفكري والتعتيم عن المصادر المنهجية الذي نتج عنه حدوث مجزرة معرفية Epistemicide بعيدة المدى، بدليل أن الأمر لو توقف فقط عند شات بوت ChatGPT وغيره من التطبيقات لما قدم عراب الذكاء الاصطناعي جيفري هينتون استقالته من غوغل مبررا خطوته كون أن الذكاء الاصطناعي صار يمثل خطرا وجوديا لا مفر من تداعياته والأكيد أن المقصود ليس الذكاء الاصطناعي الذي حددت أدواره سلفا واقتصرت على بعض الميادين والمجالات الضيقة،
سنة 1948 تأسس أخطر جهاز مخابرات في العالم وصممت آنذاك أقوى التطبيقات الموجهة لمحاكاة الحروب النووية وقياس مدى أثر وتأثير الأسلحة النووية على مكونات المجال الترابي المتواجدة فوق سطح الأرض، سنة 1957 تأسست وكالة داربا المعروفة باختراعاتها الفتاكة والخطيرة في مجال الاستطلاع والتجسس، ونحن فرحون باقتنائنا مسيرات مدنية درون لا يجب أن ننسى أن داربا اخترعت قبل سنوات عصفور التجسس الأخضر الذي يزن 20 غرام ويقوم بمهام التصوير والتسجيل ونقل البيانات بشكل مباشر … بالإضافة إلى اختراعها للعناكب والسحالي المفخخة والتي يصعب تمييزها عن الأجسام الحقيقية المشابهة لها طبيعيا، كما اخترعت داربا بعد الحرب الباردة أقوى سلاح جو في العالم ويتعلق الأمر بالقاذفة النووية الشبح B-2 Spirit التي استخدمت في تصنيعها جميع النظم والأنظمة الذكية لتكون الأخطر في العالم خصوصا تقنيات الصوت والاختفاء عن الرادارات الحربية علاوة عن تقنيات التشويش التي تجمد تحركات الأسلحة المحيطة بها …
قد يتساءل البعض لماذا هذا الكم من المعطيات النظرية ؟ أردت عزيزي القارئ أن أضع بين يديك بعض نماذج الذكاء الاصطناعي الحقيقي بعيدا عن ألعاب عاشوراء التي يتلاعب بها الغرب بعقولنا ويوهمنا بأننا نواكب ونساير معهم مسارا من الزخم التكنولوجي في حين أننا لم نمتلك حتى 10 بالمئة من النظم والأنظمة التي صممت منذ سنة 1947، حتى لغة البرمجة “بايثون” أوهموا البعض أنها حديثة التصميم وجاءت لتكريس ذكاء اصطناعي يجيب على تطلعات الجيل الجديد وهو معطى خاطئ على اعتبار أن لغة بايثون والى حدود سنة 2002 لم تكن ضمن قائمة أفضل عشر لغات برمجة عبر العالم لكنها بدأت تتصدر المشهد الرقمي الذكي بشكل تدريجي حتى نجحت في إزاحة لغة javascript من القائمة سنة 2019 وتستأسد بايثون رأس هرم التطوير المعلوماتي الى غاية كتابة هذه الأسطر … لقد أراد الغرب عزيزي القارى أن يتركنا نتيه وسط دوامة المصطلحات الكبرى ومنها البيانات الضخمة، فالغرب يرى فينا نموذجا لتجريب بعض النظريات الأدبية والسياسية التي تقتصر على دور الذكاء الاصطناعي في حماية البيانات مع تهويل منهجية التعاطي مع المواضيع تفاديا لتقويض أي ممارسة ديمقراطية قد تؤثر على مناخ السياسات الدولية وغيرها وهو ما يمكن وصفه بـ “أسلوب متحكم” … هذا ليس إلا فيضا من غيض وما خفي كان أعظم.
الذكاء الاصطناعي عند العرب … فهم ضيق ومراس واسع
يتضح من حماس مستخدمي تطبيقات ومنصات الذكاء الاصطناعي بالعالم العربي، أن هناك تعطش كبير لاقتحام هذا المجال لانفتاحه على مختلف الشعوب والمجالات مثل التعلم الآلي والتشخيص الطبي وتحليل البيانات وغيرها. ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك مشاعرا أو وعيا مماثلا لما يمتلكه الإنسان وهذا الموضوع يشكل محور بحث العلوم الأجنبية الدقيقة خصوصا موضوع الخوارزميات الجينية البشرية وهل يمكن أن تكون مادة مقرونة بعلوم وأنظمة الذكاء الاصطناعي،
بعض الدول العربية التي تحاول اللحاق بركب الدول الغربية ممن قطعت أشواطا طويلة في مجال اعتماد النظم الذكية بغية تيسير الحياة العامة للمواطن ومساعدته على ولوج أفضل لمختلف المرافق الحيوية التي تجيب عن حاجاته اليومية داخل محيطه ووسط بيئته، وتستوحي هاته الدول استراتيجية تنفيذ برامجها من بعض الطفرات التكنولوجية التي تتبناها مراكز دراسات ومؤسسات تلعب دور الأستاذ المؤهل لتقييم نجاعة الدول العربية في مدى اعتمادها واحترامها لمؤشرات التنمية الرقمية والذكاء الترابي والمدن الذكية… من هنا عمدت بعض الدول العربية إلى الاستثمار في تطوير الذكاء الاصطناعي حسب الفهم المحلي لحمولة الذكاء وأنظمته مقتصرة بذلك على الأدوات والتقنيات الكلاسيكية والتقليدانية المطورة منذ زمن بعيد وهو ما يعيق تحقيق الأهداف المرجوة من هذا الذكاء الذي ينظر إليه من زاوية ضيقة خصوصا حينما يتعلق الأمر بالمسؤولين المكلفين بالتنمية الترابية وللخروج من نفق التراجعات لابد من اعتماد مقاربات عبقرية في توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي لتوسيع ممارسات الفهم المنهجي أفقيا وعموديا وهنا نستحضر التعلم العميق Deep Learning الذي يُعتبر جزءا أساسيا من الذكاء المتقدم المذكور،كما يسمح بتطوير نماذج تعتمد على شبكات عصبية اصطناعية تقوم بتحليل وتفسير المعلومات الضخمة واستخلاص الأنماط والتكيف مع التغييرات،
تطبيقات التعلم الآلي Machine Learning تستخدم تقنيات التعلم الآلي لتحليل البيانات واستخراج الأنماط وصنع توقعات. فمن خلال تدريب النماذج على البيانات المتاحة،يمكن للأجهزة الذكية والنظم الذكية أن تتعلم وتتطور مع مرور الوقت، الروبوتات الذكية والأتمتة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين تعلمها وتكييف نشاطاتها واتخاذ قرارات معقلنة بناءً على ما يتاح لها من معطيات،الصحة الذكية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية لتحسين التشخيص والتنبؤ بالأمراض بفضل القوى الحسابية والتحليلية المتقدمة، يمكن للذكاء الاصطناعي معالجة البيانات الطبية الكبيرة وتوفير توصيات دقيقة،القيادة الذكية للسيارات الذاتية من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير القيادة الذاتية للسيارات، حيث يمكن للنظم الذكية استشعار المحيط واتخاذ القرارات المناسبة لضمان القيادة الآمنة والفعالة… ويستلزم الخروج من قوقعة الغباء الترابي أو الذكاء اللاترابي، تبني رؤية معرفية للحاجيات الضرورية التي تساهم في تجميع وتحليل البيانات المتاحة من مختلف مصادر مؤسسات الجماعة الترابية ومصالح القرب الإدارية، خصوصا أرشيف الخدمات حيث يمكن استخدام هذه المعلومات من فهم الاتجاهات والتحليلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في ضوء الزمن والسياق اللذين وردت فيه المعطيات باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، تحسين الخدمات الإدارية من خلال تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين. يمكن أن يتم ذلك من خلال تطوير نظم الذكاء الاصطناعي التي تتعلم من البيانات الوصفية والمكانية وتحليل السياقات لتوفير الحلول المناسبة والتعامل مع المشكلات والتحسينات المستمرة، تحسين التواصل المؤسساتي والترابط الفعلي للمؤسسات والهيئات عبر الانترنت يسهم في تكريس ذكاء ترابي تفاعلي بين المسؤول والمواطن من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين منصات الاستفسارات ومراقبة وسائل الإعلام الاجتماعية لاستقبال الملاحظات والمشاركات من المواطنين بشكل أكثر فعالية والاستجابة لاحتياجاتهم ومخاوفهم.
ومن الشروط التي ستبعد تهمة الغباء الترابي (مفهوم غير معترف به رسميًا وهو اجتهاد شخصي لا يعني بالضرورة الغباء، بل يشير ببساطة إلى المسؤول أو الجهة التي لا تملك القدرة على التفكير أو اتخاذ القرارات الذكية) عن الفاعل السياسي والمسؤول عن اتخاذ القرار داخل الجماعات الترابية هو فهمه لماهية إدارة الموارد والتخطيط الحضري الناجع، فاستخدام الذكاء الاصطناعي والذكاء الترابي لتحسين إدارة الموارد والتخطيط الحضري سيمكن رئيس الجماعة الترابية ونوابه من مراقبة استخدام الموارد وتحليل الأنماط الاجتماعية والبيئية والاقتصادية لاتخاذ قرارات تخطيط مستدامة وفعالة، وللإشارة فإن جميع هذه التقنيات تحتاج إلى استخدام أفضل وفق ممارسات وسياسات مسؤولة تستحضر المصلحة العامة واحترام خصوصية المواطن وتعزيز التوازن بين مختلف التيارات والتوجهات داخل المجتمع. فالمسؤول الترابي الذكي هو الذي يوطد علاقته التدبيرية بمحور الذكاء الاصطناعي مواكبة للتطور التكنولوجي بمعنى آخر يرفع من درجة اهتمامه بمختلف أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي لاكتساب المناعة التكنولوجية المساعدة على اتخاذ قرارات أفضل والابتكار ومواجهة التحديات المستقبلية.
وفي هذا الصدد يمكن للدولة المغربية أن تفرض شروطا زجرية للترشح وتسيير المؤسسات المنتخبة بناء على معرفتها بالتطورات التقنية والنظرية السائدة والمتداولة، حيث يعتبر ذلك أمرا مشروعا من الناحية القانونية والدستورية، مما يضمن تحقيق نتائج أفضل وتحديد الشخص المؤهل والقادر على مواجهة التحديات التقنية وتقديم الحلول المبتكرة لتداركها، علاوة على ذلك، يجب أن تسهم هذه الشروط في تعزيز وتطوير مهارات ومعارف السياسيين والمسؤولين الترابيين،وتمكنهم من التجاوب بفاعلية مع التكنولوجيات الرقمية بغية اتخاذ قرارات مدروسة وفهم آثار التطورات التقنية على المجتمعات التي يخدمونها.
وبالحديث عن المملكة المغربية، اتخذت الوزارة المنتدبة لدى رئاسة الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، خطوات هامة في مجال الابتكار والذكاء الاصطناعي. حيث قامت الحكومة المغربية بتنفيذ استراتيجية رقمية تروم تعزيز الابتكار وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي على مختلف المستويات والميادين، وتعد المملكة من بين الدول الأكثر تقدمًا في المنطقة العربية في هذا المجال على اعتبار أن إطلاق استراتيجية المغرب الرقمي تهدف إلى تعزيز القدرات التكنولوجية للمغرب وتحويله إلى دولة رقمية. ويرتكز البرنامج الحكومي الآني على تطوير بنية تحتية رقمية قوية وتدعيم الابتكار ومهارات التكنولوجيا في كافة أرجاء البلاد، كما تطمح الحكومة إلى توسيع نفوذ الاستثمار في البحث والتطوير ومن هذا المنطلق يولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده اهتمامًا متزايدًا للبحث والإبداع وتنمية الابتكار في القطاعات الرئيسية والحيوية، وهو ما شكل حافزا أمام تأسيس المزيد من المراكز البحثية والتقنية لتعزيز التعاون بين القطاع الأكاديمي والصناعي، أما الباب المتعلق بالترسانة القانونية فقد وضعت المملكة المغربية تشريعات هادفة إلى تنظيم وتشجيع استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بشكل مباشر وغير مباشر في مختلف القطاعات بغرض توفير بيئة مشجعة وآمنة للابتكار والتحول التكنولوجي.
وبالعودة لنقاش صناع القرار ودورهم في تكريس رؤية ذكية ناجعة في ضوء عدم امتلاك بعض المنتخبين المسيرين للمجالس الترابية وحتى النواب والمستشارين البرلمانيين المسؤولين عن تشريع القوانين، عدم امتلاكهم لمستويات أكاديمية وعلمية محترمة تسمح لهم باستيعاب وفهم بعض أدوار الذكاء شبه الاصطناعي والذكاء الترابي في تحقيق مؤشرات التنمية المجالية والحد من الفوارق الترابية، والجهة الحكومية المسؤولة عن إعادة النظر في هندسة المديريات العامة أو ضم مديرية الذكاء الترابي لمديرية التكوينات بما يضمن تعزيز الوعي وتقديم التدريب والمعرفة في هذه المجالات ذات الصلة بهذا المحور الحيوي من خلال تنظيم حملات توعية وتثقيف للمسؤولين الترابيين وأهل التشريع حول أهمية الذكاء الترابي في التنمية الشاملة مع تبسيط المفاهيم وشرحها بطريقة سهلة ومفهومة.
في نفس السياق يشكل التعاون الدولي بين المؤسسات الوطنية والدولية محورا استراتيجيا للتمكين المعرفي والاستفادة من التجارب الناجحة والموارد الدولية في مجال الذكاء الترابي وتطوير شراكات مع الدول الأخرى لتبادل المعرفة والخبرات في هذا المجال. فهذا هو الحل الوحيد الذي سيساعد صناع القرار الترابيين على تصميم وتنفيذ السياسات العمومية وتقييمها بالشكل الذي يرقى لمستويات التدبير المرن والتسيير الذكي المرجو.
إذا ما استمر الحال على حاله سيبقى شبح الغباء الترابي ملازما لصناع القرار قاطنا بمكاتبهم دون معنى، ما سيتمخض عنه قرارات يمكن وصفها بالغبية والمهترئة والتي لن تسهم بأي شكل من الأشكال في تحقيق التنمية المنشودة، فالتنمية البشرية ركن سيادي وفلسفة إصلاحية عميقة لن يفهمها من جاءت به موجة التدبير الترابي بالأمس القريب، لذلك يجب التركيز على تطوير مستويات الفهم لدى المسؤوليين لبلوغ النضج المطلوب، فالذكاء الاصطناعي يمثل أكثر التطورات التقنية تأثيرا على مستوى العالم خصوصا في دول الصين والولايات المتحدة الامريكية وكندا والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة … فوفقا لتقرير “World Intellectual Property Organization” لعام 2020، قدمت الصين أكبر عدد من طلبات براءات الاختراع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في العالم، ووفقًا لتقرير “Global AI Index” لعام 2021، احتلت الولايات المتحدة الامريكية المرتبة الأولى في مجال الابتكار في الذكاء الاصطناعي، فيما احتلت المملكة المتحدة المرتبة الثالثة وفقا لتقرير نفس المصدر… هذه أمثلة قليلة للجهات التي تسعى جاهدة لتحقيق التطور التكنولوجي وانتشار مجالاته في جميع أنحاء العالم في سبيل اتخاذ القرارات الذكية…
كل التوفيق أستاذي الكريم موضوع يستحق الإهتمام.