الحكامة الترابية والذكاء المجالي … نحو بلورة نموذج مدينة ذكية وفق رؤية طموحة

قبل الحديث عن المدن الذكية أو المدن الرقمية وقبلهما المدن صديقة البيئة، لا بد من توضيح بعض الأمور الأساسية المتعلقة بمشروع المدينة الذكية. المدن الذكية لم تُبْنَ يوما ما بالتنظير والسفسطة ولا حتى بالتأصيل النظري المبني على الندوات والخرجات الاستعراضية للمواد النظرية المستهلكة والمتاحة أمام أصغر مستخدم لشبكة النت على وجه البسيطة، أهم شيء هو الاستعانة ببعض النماذج الناجحة والخبرات الرائدة التي اشتغلت في صمت لضمان تحول هادئ ومرن لمنظومة التدبير الترابي والمجالي وهذا هو الركن الأساسي في بناء رؤية طموحة بغية الانتقال نحو جودة الحياة التي ترقى لتطلعات المواطنين، هناك بعض المجهودات التي انطلقت من مؤشر الحكامة ومؤشر البنية التحتية على اعتبار أن دمج هذين المؤشرين سيقدم لنا نموذج مخطط حضري كامل الأركان محفز على التحول الرقمي من جهة، ومن جهة أخرى مستدام يضع العامل البشري في قلب التغيير المنشود من المبنى المذكور لبلوغ الأهداف المتوخاة منه.

لا يمكن اليوم الحديث عن مشروع مدينة ذكية دون إعمال بعض المبادئ الأساسية التي تمثل جوهر العملية الانتقالية من مسار تقليدي إلى مسار يجعل الثقة بين المواطن والمسؤول رهانا ودعامة أساسيين مع ضرورة استحضار الإرادة السياسية والمقاربة التشاركية والتحلي بروح المسؤولية في اتخاذ القرارات المتعلقة بهذا المشروع… فالمدن الذكية ترتكز وفق الدراسات الدولية والعلمية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تساعد على ضمان تحول رقمي حضري مع ابتكار مناهج تدبيرية جديدة بغية ضمان بيئة رقمية صديقة للإنسان والبيئة ومشجعة على الإبداع وتفادي أي قصور في خدمة المواطنين… لأن بناء مجتمع ذكي يتطلب إيصال ثقافة الرقمنة للأفراد وتطوير صبيب الانترنت وجعل المواطنين بالقرى والمداشر شركاء في مواكبة التحول الرقمي عبر توفير تغطية النطاق العريض اللاسلكي، إذ لا يمكن الحديث عن مدينة ذكية في غياب بنية تحتية لا تستوعب التكنولوجيات الحديثة، تغيب عنها استراتيجية إمداد مياه الشرب وقنوات الصرف الصحي في بعض المواقع التابعة للنفوذ الشبه الحضري، لا توفر تعليما رقميا كفيلا بجعل مهنة التعليم رافعة لتنزيل أهداف التنمية المستدامة، انعدام مقومات برنامج الصحة الرقمية خصوصا وهو ما يسائل عدم دقة ووضوح الترسانة القانونية التي تشرف على تأطير مساطر الانتقال القطاعي تنظيميا وتحفز على الابتكار الترابي وسأشرح ذلك بشكل مفصل فيما بعد… المدينة الذكية هي التي تتبنى الحكامة الإدارية الذكية التي تجعل الساكنة في صلب اهتماماتها وتسهر على ضمان تحسين جودة الخدمات المقدمة إليها بتوفير جميع الظروف الملائمة لقضاء الأغراض والاستجابة للخدمات وفق الحيز الزمني المعقول، المدينة الذكية هي التي تشكل رأيا عاما ذكيا أو مواطن ذكي يساهم الى جانب مؤسسات الدولة في بناء معارف جديدة تواكب وتساير تطورات الأجيال الصاعدة التي تتمتع بقدر كبير من الكفاءة المعلوماتية وملمة بالتطورات التكنولوجية الحديثة فيما يتعلق بهذا الشأن، بناء رؤية اقتصادية ذكية أمر مهم من خلال تشجيع المقاولات الصغرى والمبادرات الحرة والمقاولين الذاتيين على ابتكار أفكار خلاقة ومشاريع ريادية ذكية قادرة على ادماجهم سوسيو اقتصاديا في منظومة التحول القائم، البيئة الذكية تمثل حيزا كبيرا في محور التحول نحو المدن الذكية على اعتبار أن المخطط الحضري الذي لا ينبني على تصور مستدام “صديق للبيئة” لا يمكنه أن يساعد على انتقال سليم وموفق نحو المدينة الذكية خصوصا على مستوى تخفيض الانبعاثات والانتقال نحو اقتناء العربات الكهربائية والنقل الحضري الذكي… تبقى المرافق الذكية جانبا مهما في تقييم مؤشر التحول الحضري الذكي على اعتبار أن خدماتها تمس واقع المواطن بشكل مباشر، هناك تفاصيل عديدة ترتبط بمحور المرافق الذكية سأخصص لها مقالا خاصا بها مستقبلا… تعمدت أن أترك الأمن الذكي رغم أن التفكير في بناء أي تصور من هذا النوع يستوجب استحضار المقاربة الأمنية بجميع أجناسها وفروعها التنظيمية في المقام الأول، لذلك فالأمن الذكي هو الذي تسند إليه مهمة حماية المنشآت الإدارية الحيوية عبر استخدام وتوظيف أدوات ووسائل مراقبة عالية الجودة وآليات الاستشعار عن بعد في حال ضبط أي مخطط يروم الإخلال بالأمن والنظام العام، والأمن الذكي يمثل دورا استشاريا في عملية التحول نحو مشروع المدينة الذكية، لأن مخرجات المشروع في الميدان تبنى عبر قياس أثرها ميدانيا ومدى تقبلها من طرف الساكنة والمواطن بشكل عام استبعادا لأي توتر أو احتقان قد ينتج جراء أي قرار ينبثق عن هذا التصور.

يجب تغيير استراتيجية بناء المدن الذكية لتحقيق تحول متقدم في هذا المجال، وذلك عن طريق التركيز على مجالات أكثر أهلية بدلاً من الاعتماد فقط على محور الإنسان والتكنولوجيا. ومن الواجب تسليط الضوء على هذه المجالات لضمان تحسين مستوى المدن الذكية، حيث تراجعت الرباط في تصنيف المدن الذكية لعام 2023 بمقدار 17 نقطة، لتحتل المرتبة 126 مقارنة بسنة 2021 التي حلت فيها في المرتبة 109. ووفقاً لتصنيف غلوبال داتا لابGDL، حصلت الرباط على درجة C الثالثة (ما قبل الأخيرة) في مجال تقييم البنية التحتية واستخدام التكنولوجيا لتحسين جودة الحياة العامة للمواطنين.

يتوجب على جميع المؤسسات والهيئات داخل المجتمع اليوم المساهمة في تصميم نموذج تدبيري للتنمية المدنية المستدامة، وفي طليعتها القطاع الخاص الذي يمثل أحد الدعائم المؤسساتية الرئيسية لحلول المدن الذكية، وذلك من خلال التركيز على أنظمة الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وتكنولوجيا البلوكتشين وأنترنت الأشياء والبيانات الضخمة وغيرها من الأدوات التي تساعد على اتخاذ القرارات الحكيمة وترفع من مستوى التحدي في تحقيق مشاريع ومبادرات المدن الذكية الهادفة لتلبية احتياجات الأجيال الناشئة والقادمة في مختلف مجالات الحياة العامة بشكل مستدام وآمن…


شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.