وضعت تقارير المؤسسات الدستورية التي تناولت الاستراتيجيات والمخططات الرقمية المعتمدة اليد على جملة من الاختلالات التي اعترت تلك المخططات، سواء من حيث الإعداد والتنفيذ، وكشفت عن نتائج صادمة بشأن التعثر الحاصل في القطاع، منبهة إلى بطء تحقيق التحول الرقمي بالمغرب الذي بدأ الحديث عنه منذ سنة 2005.
ويتطلب ضمان نجاح أوراش التنمية الرقمية وتطوير الاقتصاد الرقمي تحيين الإطار القانوني وملاءمته مع متطلبات التحول الرقمي، غير أنه لوحظ تأخر اعتماد بعض النصوص القانونية وفي إحداث بعض الهيئات مما يحول دون تطور هذا المجال بشكل متناسق.
وخصص المجلس الأعلى للحسابات حيزا مهما في تقريره السنوي برسم 2022-2023 لمساءلة حصيلة قطاع الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، وقبل ذلك أصدرت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها تقريرا موضوعاتيا بعنوان “التحول الرقمي، ركيزة أساسية للوقاية من الفساد ومحاربته”.
بطء التحول الرقمي
وسجل المجلس الأعلى للحسابات ضمن تقريره السنوي “عجز” الوزارة المنتدبة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة في تحقيق التحول الرقمي، لافتا إلى أن مجموعة من المجالات ما تزال غير مؤطرة قانونيا ومن بينها الأرشيف الإلكتروني ومسك السجلات الإلكترونية وموثوقية نسخ المستندات الرقمية والعملات المشفرة والمنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي وغيرها.
وقد أثر هذا التأخير المسجل في اعتماد مشروع القانون رقم 41.19 سلبا على تقدم مشاريع التحول الرقمي في الإدارات العمومية، وذلك بالنظر للجوانب المهمة التي يعالجها. وبالإضافة إلى الإطار القانوني، يعد اللجوء إلى منح العلامة والتقييس والإشهاد على المطابقة من بين الوسائل التي يجب اعتمادها لمواكبة هذا التطور.
وبينت مراجعة المعايير المغربية المطبقة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أن الجهود المبذولة لتطويرها تراجعت منذ سنة 2017، مع العلم أن المجال الرقمي واستخداماته يشهدان تطورا ملموسا لاسيما بعد جائحة كورونا.
ومن جملة الاختلالات التدبيرية التي رصدها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، عدم توفر جزء من الساكنة على المعدات المعلوماتية الضرورية للولوج للعالم الرقمي، فحوالي 17 بالمئة من الساكنة لا تتوفر على هاتف من الجيل الجديد، وبلوغ نسبة “الأمية الرقمية” 56 بالمئة من السكان حسب معطيات الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات.
وكشف التقرير لجوء المواطنين إلى وسطاء معتمدين أو غير معتمدين لتمكينهم من الاستفادة من الخدمات عبر الإنترنت، منبها إلى عدم مواكبة الجماعات الترابية للتطور الرقمي لخدمات القرب بغياب منهجية لقيادة التغيير عبر التواصل والتكوين وإعادة هيكلة المصالح.
كما سجل المجلس الأعلى للحسابات افتقار الجماعات الترابية إلى البنيات التحتية والتجهيزات الكافية والموارد البشرية المؤهلة لتشغيل واستغلال المنصات الرقمية والتطبيقات المعلوماتية، علاوة على وجود مخاطر ترتبط بالأمن السيبراني، في ظل النقص في الأطر التقنية المتخصصة وضعف التحسيس.
تخلف المقاربات القانونية
الباحث في قضايا الإدارة العمومية والتحول الرقمي، سليمان العمراني، أكد أن المغرب يفتقد إلى استراتيجية للتنمية الرقمية، “وهي الاستراتيجية التي لو وُجدِت لشكلت أصلا ومنطلقا لإنتاج استراتيجيات فرعية خاصة من قبيل الاستراتيجية الوطنية التي دعا إليها المجلس الأعلى للحسابات والمتعلقة بورش تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية”.
وأوضح العمراني أن من أبرز الأعطاب التي تُكَبِّلُ التحول الرقمي الوطني، “هو تخلف المقاربات القانونية عن الاستجابة للرهانات الرقمية المطروحة ومعالجة التحديات المحيطة بها، منبها إلى قلة المبادرات التشريعية الحكومية إلى اليوم تفعيلا للإجراءات المنصوص عليها في البرنامج الحكومي، خاصة أنه مضى من عمر الولاية الحكومية الحالية سنتان وتقترب من محطتها النصفية.
ويرى الباحث في قضايا التحول الرقمي أنه في الوقت الذي اتسمت فيه الولاية السابقة بالغنى التشريعي، حيث عرفت اعتماد نصوص تشريعية مؤسِّسَة، إلا أنه يسجل في هذه الولاية هذا الخصاص التشريعي المهول الذي لا تحجبه المعطيات، مشيرا إلى بغض النظر عن الاستحقاقات التشريعية التي يمليها البرنامج الحكومي، فإن ثمة حاجات تشريعية حالَّة وراهنة يفرضها السياق، من جنس ما أورده تقرير المجلس الأعلى للحسابات.
نتائج صادمة
وسجل العمراني أن ما يصدم عند الاطلاع على التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، إيراده مجموعة من المعطيات تكشف عن اختلالات كبيرة في تدبير ورش التحول الرقمي بالمغرب، والتي بسببها تُستنزف المالية العمومية استنزافا وتتأخر المشاريع عن مواعيدها المقررة، وكل ذلك يُنْتِج هدرا للزمن الإصلاحي لا أحد يتحمل تكلفته.
ومن النماذج التي تؤشر على ذلك ما ساقه التقرير عن الاختلالات التي اعترت إرساء مشروع التشغيل البيني بين الأنظمة المعلوماتية للإدارة العمومية، إذ يؤكد أنه “تم إدراج مشروع التشغيل البيني بين الأنظمة المعلوماتية على مستوى جميع الاستراتيجيات التي تبناها المغرب بما فيها استراتيجية المغرب الإلكتروني 2010 ومخططي المغرب الرقمي 2013 و2020”.
ولفت “مجلس العدوي” إلى أن تنفيذ هذا المشروع وتنزيله واجهته عدة صعوبات تتعلق بالتأخير في ملاءمة الإطار القانوني وفي تأهيل الأنظمة المعلوماتية للإدارات العمومية للقيام بالتشغيل البيني، إذ تم التخلي عن النسخة الأولى من منصة التشغيل البيني المشتركة بين الإدارات (Gateway) التي تم تطويرها سنة 2015 بتكلفة مالية تقدر بحوالي 11,3 مليون درهم، وقد عرفت سنة 2019 تطوير منصة جديدة من طرف وكالة التنمية الرقمية بكلفة تقدر بحوالي 62 مليون درهم، رغم وجود إمكانية إعادة تطوير النسخة الأولى.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى قيام المديرية العامة لأمن نظم المعلومات بافتحاص النسخة الأولى وإصدار عدة توصيات ترمي لتصحيح العيوب الأمنية دون أن تقترح التخلي عن المشروع، بينما أوصت نتائج الافتحاص الذي أجرته وكالة التنمية الرقمية بإعادة صياغة المنصة في نسختها الأولى أو التخلي عنها.
وأوضح تقرير المجلس الأعلى للحسابات، أنه على الرغم من تنزيل وتشغيل النسخة الثانية من المنصة وفتح إمكانية تبادل وتقاسم البيانات، فإن أهداف تطوير الحالات العملية المنصوص عليها في خطة عمل وكالة التنمية الرقمية لعام 2022 ما زالت لم تتحقق”.
وخلص العمراني إلى أن الافتحاص الذي أجراه المجلس الأعلى للحسابات بشأن ورش التنمية الرقمية بالمغرب “يعتبر بحق شهادة مؤسساتية ثمينة على مستوى الخصاص التخطيطي والمؤسساتي والقانوني والتدبيري الذي يعرفه هذا الورش”، مضيفا “وهو ما يستدعي التفاعل الفوري للجهاز التنفيذي وللوزارة الوصية بالخصوص مع مخرجات تقرير المجلس”.