تقديم
تحدثت في مقالة سابقة عن ”التعليم الرقمي في المغرب مع وقف التنفيذ”، وتوقفت فيها عند أهم الأعطاب التي تَسِمُ المنظومة ومن أهمها:
- غياب سياسة حكومية لتحقيق التحول الرقمي الناجع في قطاع التعليم؛
- استمرار الفجوة الرقمية بدون معالجة جذرية وتأثير ذلك على جودة التعليم؛
- التأخر في ملاءمة المناهج والبرامج التعليمية مع رهانات وتحديات التحول الرقمي، كما التأخر في التأسيس لتربية رقمية للناشئة قائمة الذات؛
- استمرار معاناة التلاميذ بالتعليم الابتدائي، بسبب كثرة المقررات والكتب المدرسية المعدة على الحامل الورقي، في غياب أي توجه معلن للاستعاضة عن ذلك بمقررات وكتب رقمية؛
إن الإصلاح الشمولي للتعليم متعددُ الأبعاد والمجالات والأدوات، ولعل من أهمها وأبرزها التحول الرقمي الذي يشكل اليوم رهانا استراتيجيا وطنيا، لا يمكن اختزاله في طبيعته التقنية وإنما يكتسي رهانا تنمويا بلا جدال.
لذلك أعود اليوم لتناول موضوع رقمنة التعليم في بلادنا، من زاوية أخرى، هي زاوية “موقع التحول الرقمي في المشروع الإصلاحي لقطاع التعليم”.
1.مجلس المستشارين يقارب سؤال إصلاح التعليم والرقمنةُ أكبر الغائبين:
عقد مجلس المستشارين أمس الثلاثاء 5 يوليوز جلسة للأسئلة الشفوية متعلقة بالسياسة العامة كان محورها “واقع التعليم وخطة الإصلاح”، وقد استند رئيس الحكومة في عرضه على مجمل التوجهات الأساسية التي تضمنها مشروع الإصلاح الذي طرحته وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة.
لقد بحثت في ثنايا عرض رئيس الحكومة عن مكانة التحول الرقمي في المقاربة الحكومية لإصلاح التعليم فوجدت حضورا ضعيفا غير منصف، تعبر عن ذلك الفقرتان اليتيمتان الآتيتان:
- “كما أنه لتسهيل عمل الأساتذة وتعزيز أثرهم على المتعلمات والمتعلمين سيتم تجديد المقررات والمقاربات البيداغوجية وتقوية استعمال الأدوات الرقمية، عبر تمكين هيئة التدريس من الدلائل البيداغوجية والعتاد الديداكتيكي لتحقيق ممارسات تربوية ناجعة، بما يضمن اكتساب التعلمات الأساسية وإثراء الموارد البيداغوجية داخل الفصل”؛
- “أما فيما يخص تطوير الرقمنة والربط بشبكة الأنترنت، تهدف الحكومة إلى تعميم الإنترنت في 90 في المائة من المدارس في إطار تصور متكامل يعزز المنظومة المعلوماتية في قطاع التعليم عن طريق تجديد المعدات وتوسعة نظام مسار”؛
أما التعقيبات على ذلك العرض فيما يخص مكانة التحول الرقمي في إصلاح المنظومة التعليمية فكانت محدودة وباهتة وغير وافية بالمطلوب.
إن أهم ما يمكن أن يعاب على مشروع الإصلاح الرقمي للتعليم هو انزياحه عن الاختيارات الرقمية في المرجعيات الوطنية، المتمثلة أساسا في الرؤية الاستراتيجية 2015-2025 الصادرة عن المجلس الأعلى للتعليم، والقانون الإطار للتربية والتكوين والبحث العلمي، واختيارات النموذج التنموي الجديد، إلى جانب انزياحه عن التجارب العالمية الفضلى، كما سنبين ذلك في الفقرات اللاحقة:
2. أي رؤية للإصلاح الرقمي للتعليم في بلادنا؟
طرحت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة مشروعا لإصلاح التعليم، وعرضته للتشاور المؤسساتي والعمومي منذ شهر ماي الأخير. والباحث عن موقع الرقمي في مسودة هذا المشروع يجد إخلالا بيِّنًا غير مبرر.
فقد ارتكز المشروع على ثلاثة محاور هي التلميذ والمدرس والمؤسسة، قائمة على عشر رافعات استراتيجية، إحداها هي رافعة “تجديد المقاربات البيداغوجية والوسائل الرقمية“، بما يفيد أن واضعي المشروع اختزلوا الرهان الرقمي لإصلاح المنظومة التعليمية في مجرد تعبئة الوسائل الرقمية الديداكتيكية.
وسأتوقف عند انزياحات هذا المشروع عن رهان التحول الرقمي في التعليم، بصرف النظر عن أهمية هذا المشروع من حيثُ مجمل اختياراته، وذلك باستدعاء بعض المرجعيات الحاكمة.
3. توجهات الإصلاح الرقمي للتعليم في واد غير وادي الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار وتوجهات النموذج التنموي الجديد:
3.1/- الانزياح عن الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015_2025 والقانون الإطار للتربية والتكوين والبحث العلمي:
لا يمكن لمن يستعرض الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2025” من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء” للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي إلا أن يحس بالمتعة والاعتزاز، وما شَدَّني إليها خاصة هو تملس موقع الرقمنة في صياغة مضامينها، وقد هالني قوة وعمق وكثافة ما أكدت عليه من اختيارات لبناء التعليم الرقمي في بلادنا، ويصعب استدعاء كل تلك المضامين في هذا الحيز المحدود، لكن سأكتفي بالعناوين الكبرى للاختيارات ومن أبرزها:
- إعداد برنامج وطني، بآجال محددة، قصد استكمال تجهيز المؤسسات التعليمية والتكوينية والجامعية بتكنولوجيا الإعلام والاتصال؛
- تعزيز إدماج التكنولوجيات للارتقاء بجودة التعلمات؛
- مراجعة مفهوم الكتاب المدرسي، ورقمنته، بموازاة رقمنة المضامين والوثائق التعليمية؛
- إدماج تكنولوجيا الإعلام والاتصال والثقافة الرقمية، في المدى القريب، كمادة أساسية في التكوين الأساس والمستمر لكل الأطر التربوية؛
- تكوين مختصين في البرمجيات التربوية والإعلاميات البيداغوجية، وإنتاج المضامين والموارد التعليمية الرقمية؛
- تحفيز الشباب على خلق مقاولات متخصصة في إنتاج الحوامل التربوية الرقمية؛
- إحداث مراكز للموارد الرقمية ومختبرات للابتكار وإنتاج هذه الموارد؛
- تنمية وتطوير التعلم عن بعد، باعتباره مكملا للتعلم الحضوري؛
- إعداد خطة عمل للتعبئة والتحسيس بأهمية تكنولوجيا الإعلام والاتصال ودورها في إصلاح المدرسة؛
والعجيب أن بعض الاختيارات كأنما استبقت المرحلة الوبائية التي مست بلادنا وفرضت تحدياتها على المنظومة التعليمية.
أما فيما يخص القانون الإطار للتربية والتكوين والبحث العلمي، فقد نص ضمن أهدافه على تحسين جودة التعلمات والتكوين خصوصا عبر التكنولوجيات التربوية، وألزمت المادة 33 منه الحكومة بما نصت عليه الرؤية الاستراتيجية من اختيارات، ودعا الحكومة إلى:
- وضع نظام وطني متكامل للمعلومات من أجل إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في عمليات التدبير والتقييم؛
- تطوير برامج التعاون والشراكة في مجالات من بينها التعليم عن بعد؛
- ملاءمة أنظمة التكوين مع المستجدات التربوية والبيداغوجية والعلمية والتكنولوجية؛
يتبين من هذا الاستعراض السريع مدى الفجوة العميقة التي تفصل مبادرات القائمين على الشأن التعليمي مع مرجعياته الأساسية، في مجال حيوي واستراتيجي هو المجال الرقمي.
3.2/- الانزياح عن النموذج التنموي الجديد:
خَصَّص التقرير العام للنموذج التنموي الجديد وكذا تقاريره الموضوعاتية، حيزا معتبرا لتحديات ورهانات التحول الرقمي، واقترحت توصيات نوعية يمكن تلمسها في مَظَاِّنها، وحسبنا هنا أن نسوق ما قاله التقرير العام بشأن الرقمنة في قطاع التعليم:
- اعتبار الرقميات رافعة أفقية لعملية التحول لفائدة الولوج إلى الخدمات الأساسية ومنها التعليم؛
- تأكيده- خدمةً للاختيار الاستراتيجي الأول” تعليم ذو جودة للجميع” – على”استغلال الفرص التي تتيحها الرقميات لجعلها رافعة قوية لتحويل النظام التربوي وحاضنة لممارسات بيداغوجية جديدة، عن طريق تطوير منظومة مغربية لتكنولوجيا التربية(Edtech) تُدمج كل المقاولات والشركات الناشئة المستعملة للتكنولوجيات الجديدة، لأجل تحويل عالم التربية والتكوين، وربط كافة المدارس العمومية بشبكة الأنترنيت، ويمكن، على المدى القصير، الشروع في تنفيذ مبادرات لاستغلال الإمكانات التي تتيحها الحلول الرقمية، سيما فيما يتعلق بالتدريس عن بعد وتعلم اللغات”؛
والظاهر من هذه النصوص أن النموذج التنموي الجديد يعتبر التعليم الرقمي نموذجا تحويليا للنظام التعليمي ككل ولا يختزله في مجرد أداة ديداكتيكية، على الرغم من أهميتها.
فمشروع إصلاح التعليم المطروح اليوم لم يكتف بشروده عن الاختيارات الرقمية في الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار، ولكن بدا غير وَفِيٍّ للاختيارات الرقمية للنموذج التنموي الجديد، مما يستدعي التساؤل باستغراب: وزير التربية الوطنية ورئيس اللجنة الخاصة للنموذج التنموي شخص واحد، لكن ما هذا “اللانسجام” بين الأول والثاني؟؟
4.استلهام تجربة الإصلاح الرقمي للتعليم في فرنسا:
أحيانا تسعف بعض المقارنات في قياس البَوْنِ بين السياسات، وهنا نسوق تجربة لبلد ليس نموذجا رقميا في العالم ولكن تجربته الإصلاحية للتعليم الرقمي متقدمة على مثيلتها المغربية، للأسف، وسنكتفي بذلك دون الإحالة على تجارب أكثر تقدما حتى لا يتسع الفرق ويتعمق.
إنها فرنسا التي قررت وزارتها في التربية الوطنية والشباب عبر مديرية رقمنة التعليم، إطلاق الأشغال الأولى للتفكير في تداعيات الأزمة الصحية على التعليم ابتداء من يوم 26 ماي الأخير، ومن أجل ذلك أحدثت أربع مجموعات موضوعاتية للبحث في القضايا الآتية:
- الرقمنة والتربية والابتكار؛
- تملك وتنظيم الرقمنة التربوية؛
- الإنسانيات الرقمية، العلم والتربية المفتوحة؛
- الذكاء الاصطناعي والتربية.
إنه نموذج مهم بالرغم من كل الملاحظات، يُظْهِرُ الإيمان الراسخ للقوم بالرقمنة، لذلك يبذلون ويعبئون كل ما يستطيعون للحاق بالدول الرائدة رقميا، ويمكن لوزير التعليم لدينا ألا يجادل في ذلك لأنه مكث أمدا غير يسير في فرنسا حيث كان سفيرا لديها وخَبَرَ من تجربتها ما لم نَخْبُرْه نحن.
عود على بدء
إن مشروع إصلاح التعليم في بلادنا الذي اتخذ له شعار” تعليم ذو جودة للجميع” لن يكتمل ولن يستوي على سُوقِه بدون تعبئة الاختيارات الرقمية لتحقيق الجودة المرجوة، وهو في اللحظات الأخيرة للتشاور العمومي، لذلك فالفرصة سانحة للقيام بالاستدراكات الضرورية، بالتلاؤم مع المرجعيات الوطنية الحاكمة والتجارب الفضلى المتقدمة عالميا.