أجرت صحيفة “الأيام” الأسبوعية حوارا في عددها 1012 بتاريخ 10 نونبر 2022، مع سليمان العمراني، بمناسبة صدور كتابه” التحول الرقمي بالمغرب، ما جد وما صح وما قل”.
وقد تضمن الحوار أهم الأفكار الآتية:
1- التحول الرقمي له عائد تنموي، اقتصادي واجتماعي وبيئي وإداري وخدماتي؛
2- الحكومة مدعوة أن تضفي على ورش إعداد الاستراتيجية الرقمية في أفق 2030، طابعه الحكومي الأفقي وليس القطاعي، وأن تستثمر كل التوصيات المفيدة للمؤسسات الوطنية والدولية، وأن تعتبر عامل الزمن بتسريع التنفيذ دون إخلال، وأن تجعل من هذا الاستحقاق – عبر الشراكة والمشاركة والإشراك – فرصة لتعبئة المجتمع وكل قواه الحية إلى جانب المؤسسات الوطنية؛
3- محنة كوفيد-19 كانت درسا قاسيا، وشكلت اختبارا لنضج سياساتنا الرقمية ومدى استوائها على سوقها، وكانت أكثر السياسات عرضة لذلك الاختبار السياسات التعليمية والصحية والإدارية، واليوم وأزمة كوفيد وراء ظهورنا تقريبا، لا يبدو أن المدبرين العموميين استخلصوا الدرس بما يكفي، ولذلك مؤشرات أظهر من نار فوق علم.
وفيما يلي النص الكامل للحوار:
*************************************
- اعتبرت في كتابك أن التحول الرقمي يمكن أن يحقق أهدافا تنموية، فكيف يحصل ذلك؟ وهل هناك تجارب حققت تقدما على هذا الصعيد؟
التحول الرقمي بما هو استثمار للتكنولوجيا في جميع مناحي الحياة، يرجى أن يكون له عائد تنموي، اقتصادي واجتماعي وبيئي وإداري وخدماتي.
فعلى المستوى الاقتصادي والمالي، يُمَكِّن التحول الرقمي مثلا من تيسير الإحداث الإلكتروني للمقاولات، وممارسة التجارة الإلكترونية، والاستفادة من البرمجيات المعلوماتية والمنصات الرقمية لإجراء المعاملات المالية وأداء الضرائب والحصول على الرخص، وتدبير الطلبيات العمومية، ورفع نجاعة الأنشطة الفلاحية والصناعية..
وعلى المستوى الاجتماعي، يعتبر التحول الرقمي أداة لا مندوحة عنها لتدبير منظومة الحماية الاجتماعية كما أقر ذلك القانون 72.18 ذي الصلة، والتصريح بالأجراء وتدبير المعاشات، والاستفادة من الخدمات الصحية عن بعد، وتيسير العلاقات الاجتماعية..
وعلى المستوى الإداري، يضيق المقام عن سرد المجالات، فتكفي الإشارة إلى التطور الذي عرفه ورش رقمنة الخدمات العمومية للإدارات العمومية والجماعات الترابية، وإمكانية الاشتغال الإداري عن بعد، والترشيح للمباريات والامتحانات، فضلا عما ييسره التحول الرقمي من رفع فعالية التدبير الإداري الداخلي للإدارات.
وعلى المستوى البيئي، تتأكد فائدة التحول الرقمي بتقليص استعمال الورق الذي يقتضي إنتاجه إتلاف المساحات الهائلة من الأشجار…
وقد أكدت مجموعة من الدراسات أن التحول الرقمي يساهم في رفع الناتج الداخلي، ومنها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي” نحو تحول رقمي مسؤول ومدمِج” الذي أفاد أن رقمنة المعاملات وإزالة الطابع المادي عنها من شأنه أن يرفع مُساهمة قطاع تكنولوجيا الإعلام والاتصال إلى أكثر من 10 % من الناتج الدّاخلي الإجمالي، كما أشار نفس المجلس في تقرير سابق له صدر سنة 2016( التحول الرقمي في خدمة المواطن ومن أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة)، أن قطاع تكنولوجيات الإعلام والاتصال حقق سنة2015 ما قدرُهُ 4.1 تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 5 %من الناتج الداخلي الخام العالمي.
- وجهت في كتابك انتقادا إلى منشور رئيس الحكومة الصادر مطلع غشت الماضي، بخصوص إطلاق “استراتيجية جديدة للتحول الرقمي في أفق 2030″، لماذا أنت متشائم من هذه الاستراتيجية؟ وما الذي ينبغي التعجيل به لإنجاح هذا الورش؟
بل رحبتُ بمنشور رئيس الحكومة، وقلت بالحرف إن الحكومة تعتزم ” إطلاق ورش استراتيجية التحول الرقمي في أفق 2030 بدءا من السنة المقبلة، وهو إجراء محمود ويستجيب لانتظارات كافة الفاعلين والمهتمين”، لكنني تساءلت: ” كيف سيكون ذلك؟ بأي منهجية وبأي أدوات وبأي أفق وبأي تكلفة؟؟؟”، وهي أسئلة مشروعة يمكن أن تصدر عن أي باحث مثلي.
وفي مقالة أخرى في الكتاب بسطتُ خمس قواعد منهجية بَدَتْ لي ضرورتها لتأطير هذا الورش، ومن أهمها:
- تقييم ما فات لاستشراف ما هو آت، أي لابد من الانطلاق من تقييم الاستراتيجيات الرقمية التي عرفها المغرب منذ سنة 2000، والتأسيس على ذلك لبلورة الاستراتيجية الجديدة المأمولة، والخشية هنا من تكرارا الأخطاء التي حكمت وضع استراتيجية المغرب الرقمي 2013 ونبه إليها المجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وأبرزها عدم تقييم الاستراتيجيات السابقة وضعف المقاربة التشاركية؛
- الإشراف المؤسساتي على ورش بلورة الاستراتيجية، حيث دعوتُ إلى أن يتولى ذلك رئيس الحكومة لصفته الدستورية والمؤسساتية، وهذا أدعى إلى الانخراط المؤسساتي الواسع في مرحلتي البلورة والتنزيل؛
- المقاربة التشاركية، وقد سبقت الإشارة إلى هذا العنصر؛
- خارطة طريق لبلورة الاستراتيجية، حيث إن من ضمانات حسن تنزيل الاستراتيجية أن تكون معززة بهذه الخارطة، لأنه سُجِّلَ على التدبير العمومي سابقا في العديد من الحالات حسن الأداء حين البلورة وضعفه حين التنزيل.
إنني لست متشائما ولكنني من زاوية الباحث مشفقٌ أن يرتهن هذا الورش لنفس المنهجية التي حكمت سابقيه، وهناك بعض المؤشرات غير المطمئنة، فالحكومة مدعوة أن تضفي على هذا الورش طابعه الحكومي الأفقي وليس القطاعي، وأن تستثمر كل التوصيات المفيدة التي وردت في تقارير المؤسسات الوطنية والدولية التي قاربت الاستراتيجيات الرقمية الوطنية المعتمدة إلى اليوم، وأن تعتبر عامل الزمن بتسريع التنفيذ دون إخلال، وأن تجعل من هذا الاستحقاق – عبر الشراكة والمشاركة والإشراك – فرصة لتعبئة المجتمع وكل قواه الحية إلى جانب المؤسسات الوطنية حول هذا الورش الحيوي والهيكلي والاستراتيجي.
لقد اتفقتْ تقييمات المؤسسات الدستورية وإلى جانبها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أن بلادنا أعوزها إلى الآن تملك استراتيجية رقمية كاملة الأوصاف، بلورةً وتنزيلاً، والفرصة اليوم سانحةٌ لتدارك ما شاب المرحلة السابقة والتداعي لاستراتيجية تستجيب لطموحنا الجماعي.
- انطلاقا من خبرتك، هل تمكن المغرب من الاستفادة من دروس كوفيد-19 بتعزيز التحول الرقمي؟
كانت محنة كوفيد درسا قاسيا لنا كما لكل بلدان العالم، وشكلت اختبارا لنضج سياساتنا الرقمية ومدى استوائها على سوقها، وكانت أكثر السياسات عرضة لذلك الاختبار السياسات التعليمية والصحية والإدارية.
واليوم وأزمة كوفيد وراء ظهورنا تقريبا، لا يبدو أن المدبرين العموميين استخلصوا الدرس بما يكفي، ولذلك مؤشرات أظهر من نار فوق علم، أهمها:
- تأخر إرساء نظام التعليم الرقمي، في القطاع العام، ومن أبرز مظاهره غياب الكتاب الرقمي؛
- تأخر إرساء نظام الصحة الرقمية، في القطاع العام، وأحد الاستثناءات المحدودة المنجزُ التشريعي الهام بإعداد مشروع القانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية، الذي نص على مقتضيات رقمية دالة؛
- عدم انطلاق التفكير في إرساء نظام الاشتغال الإداري عن بعد، تثمينا لاستطلاع الرأي الذي أنجزه مؤخرا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛
- عدم النمو بما يرضي للمعاملات المالية الرقمية، يؤكد ذلك تقرير حديث صدر عن مجموعة البنك الدولي؛
- استمرار الفجوة الرقمية التي تَحُدُّ من إمكانية ولوج المواطنين للخدمات العمومية والخاصة، حيث تعاني مناطق عديدة في المغرب من ضعف شبكة الأنترنت، ومن جهة أخرى ما تزال تكلفة الانخراط في شبكة الألياف البصرية (الأنترنت الثابت ذي الصبيب العالي) مرتفعة جدا؛
وهناك عوامل أخرى، تفسر جميعها الترتيب المخل للمغرب عالميا في سلم الحكومة الإلكترونية المعتمد من قبل منظمة الأمم المتحدة، حيث احتل الرتبة 101 من أصل 193 في تقرير صدر آخر شتنبر الأخير بتنقيط لم يتجاوز 100/59،15.
صحيح أن البرنامج الحكومي تضمن إجراءات نوعية من شأن تفعيلها تعزيز التحول الرقمي لبلادنا، لكن لا يظهر بعد أكثر من سنة أن قطار التنزيل قد انطلق.
- إجمالا، وانطلاقا مما خلصت إليه في كتابك؟ كيف تقيم وضع الرقمنة في المغرب؟
التحول الرقمي في المغرب مؤطر بسياسات عمومية من أبرز مكوناتها المخططات المعتمدة بغض النظر عن الخصاص الذي يَسِمُها، والتشريعُ الصادر خصوصا خلال الولاية السابقة، والإطار المؤسساتي المتوفر، والإجراءات التنظيمية المعبأة والإمكان التقني المتوفر، لكن هناك أعطاب تتلبس بهذه السياسات تجعل أثرها المنشود محدودا.
سيكون اعتماد استراتيجية رقمية جديدة- خصوصا إذا اتصف إعدادها وتنزيلها بالضوابط المذكورة – جزءً من الحل ومدخلا للتطوير، إلى جانب إجراءات أخرى ذات طبيعة مؤسساتية وتشريعية وتكنولوجية وبشرية ومجتمعية تتعين تعبئتها.