توصيات حول مداخل النموذج التنموي الجديد بالمغرب

يطرح النقاش حول النموذج التنموي من البداية تساؤلا مركزيا من قبيل: هل امتلك المغرب يوما نموذجا تنمويا متجانسا وواضح المعالم؟  إذ يمكن الجزم أنه قد حاول منذ بداية الألفية الثالثة تكييف سياساته العامة مع أهداف الألفية الثالثة المتعلقة بالتنمية البشرية لتي وضعتها الأمم المتحدة قصد مكافحة الفقر والهشاشة في العالم. فقد تم هذا التكييف بسرعة وبشكل عمودي، حيث تم تنفيذه ونشره انطلاقا من مركز الدولة نحو أطرافها ومن الفوق نحو القاعدة.  وهذا ما طرح إشكال فعالية الإصلاح من الفوق وجاهزية المجتمع ومؤسساته لمسايرة خطى الدولة الإصلاحية.

  1. على مستوى الهندسة المؤسساتية للدولة:
  • الإقرار بفشل النموذج المؤسساتي اليعقوبي المفرط في المركزية.
  • الاقرار بفشل جل الاجراءات المتعلقة بالتمكين الاقتصادي والمالي للجماعات الترابية المعتمدة كليا على موارد الادارة المركزية، إذ:
  • لا يمكن جعل هذه الوحدات الترابية رافعة للتنمية إلا إذا تمكنت فعليا من وضع التوجهات الاقتصادية الخاصة بها (أي تمكينها من سلطات تشريعية محددة في مجالات الاقتصاد والتعليم والسكن والشغل…. الخ.)
  • وهذا ما سيسمح بخلق ديناميكية تنافسية بينها بما يسمح بفرز واضح للنماذج الترابية لناجحة وغير الناجحة، ويمكنها من تبادل الخبرة والتجارب.
  • الدفع نحو خلق فضاءات اقتصادية جهوية حرة ومتخصصة قصد جلب الرساميل الوطنية والدولية والسماح باندماج أفضل في الاقتصاد العالمي.
  • تعديل الدستور لتمكين الجماعات الترابية من السلطات التشريعية اللازمة لتدبير مجالها وتنمية قدراتها البشرية والاقتصادية.
  • الاقرار بأن الحد من الفوارق الاجتماعية ومن الفقر يمر أساسا عبر الحد من الفوارق المجالية والترابية، لأن محاربة الفقر والهشاشة لا تكون فعالة إلا على المستوى الترابي (الجهوي والجماعي) حيث يمكن تفعيل شبكات العلاقات العضوية كرافعة لتحقيق التضامن والانسجام الاجتماعي.
  • محاربة المقاومة المؤسساتية للتغيير  Path dépendancy عبر إدماج الوسائل التكنولوجية في التدبير المؤسساتي بما يسمح بالانفتاح على التجارب الدولية ودعم الابتكار في تسيير وتدبير الموارد العمومية.
  1. على مستوى التعليم:

وهو مستوى استراتيجي لا يقل أهمية عن المستوى الأول، مادام الولوج إلى التنافسية الدولية وإلى اقتصاد المعرفة يمر أساسا عبر تجويد التعليم وتمكين الشباب من مهارات وقدرات معرفية وتقنية تؤهلهم للانخراط السلس في سوق الشغل المتجدد والمعولم. وفي هذا الصدد يتوجب:

  • توسيع قاعدة التمدرس في الأوساط القروية وتنويع العروض التعليمية بما يسمح بتوسيع آفاق المتمدرسين وخياراتهم.
  • القطع مع الاعتقاد التقني غير المؤسس علميا الذي يدافع عن ربط العروض التعليمية بسوق الشغل للأسباب التالية:
  • محدودية سوق الشغل الوطنية.
  • التسارع اليومي لحاجيات السوق الاقتصادي بما لا يسمح للمدرسة بأي إمكانية للمواكبة.
  • تسارع وتيرة الابتكار التقني الذي يتجاوز كثيرا إمكانيات المدرسة العمومية مهما توفرت لديها الوسائل والموارد.
  • محدودية موارد وعرض المدرسة العمومية مقارنة مع يتطلبه السوق.
  • الحد من الهدر المدرسي على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي، عبر إقرار إجبارية التعليم إلى حدود الثامنة عشر، مع وجوب تحميل الآباء.
  • القطع مع المجانية التامة للتعليم العالي، حيث أنه إذا كان ضروريا اعتماد مجانية التعليم الابتدائي والثانوي إلى حدود سن الثامنة عشر، فإن المجانية على مستوى التعليم العالي لا يجب أن تكون حقا طبيعيا، بل حقا مكتسبا، يمنح حصريا لأبناء الفئات الهشة النابغين والذين أثبتوا قدراتهم وتفوقهم.

ذلك أن اعتماد جامعات ذات الاستقطاب المفتوح يعد في حد ذاته هدرا لموارد الدولة ولقدرات الطلبة، إذ لا يستفيد من مجانية التعليم العالي إلا القليل من الطلبة، مقارنة مع الجهود الجبارة التي تقوم بها الدولة في هذا المجال، رغم محدودية مواردها. لذلك فإن ترشيد الإنفاق العمومي في هذا المجال يمر عبر تمكين الجامعات العمومية من توفير عروض تعليمية تنافسية ومؤدى عنها، تسمح لها بتحقيق موارد مالية إضافية، يمكن توجيهها نحو تشجيع البحث العلمي والابتكار، كما يمكنها من تحديث تجهيزاتها دون إثقال ميزانية الدولة.

  • توجيه التعليم نحو الابتكار وتملك التقنيات الحديثة عوض الاقتصار على التعليم التقليدي المعتمد على الحفظ.
  • إدماج تعلم اللغات الحية والتقنيات الحديثة في كل المسارات التعليمية من الابتدائي إلى الجامعي.
  • على مستوى السياسات الاجتماعية:
  • الإقرار بأنه بالرغم من المجهودات الجبارة للدولة وبالرغم من الحجم الكبير للإنفاق في القطاعات ذات البعد الاجتماعي، فإن ولوج المواطنين لهذه القطاعات ظلت محدودة كما وكيفا، ولم تحقق الأثر المتوخى منها في تحسين ظروف عيش المواطنين وثقتهم بمؤسسات الدولة.
  • إذ يجب في هذا السياق الانتقال من المنطق السائد المدافع عن المزيد من الدولة، إلى منطق نجاعة الدولةPlus d’Etat-Mieux d’Etat إلى منطق الدولة غير المبذرة.
  • على مستوى سياسات الإسكان يجب توفير السكن للمواطنين دون تمكينهم من ملكية السكن، لأن ذلك من شأنه إنهاك ميزانية الدولة ووعائها العقاري دون تحقيق الهدف المنشود المتعلق بمحاربة الفقر والهشاشة (فالسكن يجيب أن يظل في ملكية الدولة مع تمكين المواطنين من الاستفادة منه.)
  • على مستوى الصحة، لا يجب ملازمة جودة الصحة العمومية بحجم الإنفاق عليها. إذ يمكن تحقيق جودة الخدمات الصحية العمومية دون الحاجة لموارد ضخمة. يمكن البحث عن تعويض الإنفاق على البنايات الاستشفائية ذات التكلفة العالية بوحدات صحية أقل كلفة وأقل هدرا للطاقة والموارد. كما يمكن اللجوء إلى البرامج الصحية الوقائية كحل للتقليل الإنفاق العمومي في مجال الصحة. كمثال على ذلك، الاستثمار الطويل الأمد في الصحة الوقائية مثل الرياضة، الرفع من ثمن المشروبات الغازية والأطعمة السريعة ذات الأثر السلبي على الصحة العامة للمواطنين، والرفع من الجبايات على مصادر التلوث…
  1. على المستوى الاقتصادي:
  • ضرورة الحسم في طبيعة توجه النموذج الاقتصادي المغربي، لأن تحقيق اقتصاد تنافسي حديث ومندمج في الاقتصاد الدولي يتطلب الانخراط التام وغير المشروط في الاقتصاد العالمي، وهذا لا يتأتى إلا:
  • بالبحث عن اقتصاد مبني على تخصصات ذات قيمة وطاقة عالية مثل الاقتصاد البيئي-الاقتصاد الرقمي 4.0 و5.0
  • والبحث عن خلق فضاءات حرة للابتكار والاستثمار،
  • وتسويق أفضل لماركة المغرب، الذي يمر أساسا عبر تثمين المنتجات الوطنية والتشجيع على استهلاكها وطنيا ودوليا.
  • الاعتراف بفشل النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المبني حصرا على قاعدة النمو بدلا من التنمية، مما دفعه إل التركيز على الإصلاحات الكمية التي من شأنها تشجيع وتيرة الاستهلاك لدى المواطنين والمؤسسات العمومية حتى ولو كان ذلك على حساب البيئة والصحة العمومية.

ذلك أن هذا النموذج يعتمد على فكرة الرفع من مستوى عيش المواطنين عبر الرفع من قدراتهم الشرائية، أي الاستهلاكية، وهذا ما يخلق ضغوطا خطيرة على الموارد الطبيعية والبيئية المتوفرة دون تحقيق هدفه، ما دامت المطالب الاستهلاكية للمواطنين في ارتفاع مضطرد غير متناسب مع الامكانيات الاقتصادية المتاحة.

  1. على مستوى ديمومة النموذج التنموي

تعاني الدولة من إشكالية القدوة Exemplarité على المستوى البيئي والتعاطي مع الموارد المادية والطبيعية المتاحة، ذلك أن تعاطي المؤسسات العمومية مع هذه الموارد يتم على قاعدة التبذير وكأنها موارد لا تنضب، وهو ما يدفعها إلى الاستهلاك غير المعقلن للمياه والطاقة، لذلك يتوجب:

  • سقي المساحات الخضراء بمياه معالجة غير مياه الشرب،
  • واعتماد الإنارة الاقتصادية في الشوارع العمومية،
  • تقنين استهلاك الورق والطاقة في مباني الدولة
  • وعدم اعتماد تقنيات توفير مياه الأمطار …. الخ)
  • اعتماد مؤسسات الدولة على آليات غير مبذرة للطاقة وغير ملوثة للهواء، باعتبارها قدوة للفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.
  • الدفع نحو الابتكار والاستثمار المكثف في مجال الطاقة البديلة والتكنولوجية الخضراء التي تعد من ركائز الاقتصاد المستقبلي.
  1. على مستوى مكافحة الفساد والرشوة:

يجب الإقرار بأن محاربة الفساد والرشوة لا يستقيم إلا بتجفيف منابعها والقضاء على دوافعها ومسبباتها العميقة، إذ ما دامت الإدارة والمؤسسات العمومية ترزح تحت ثقل البيروقراطية والمساطر المعقدة والمكلفة زمنيا وماديا، فالرشوة تظل أمرا واردا بل وعقلانيا لتفادي ضياع الوقت والجهد.

ولعل القضاء على الرشوة لن يتم إلا ب:

  • تبسيط المساطر والاجراءات الإدارية.
  • اعتماد الشفافية في المساطر والمعايير المعتمدة من قبل الإدارة والمؤسسات العمومية.
  • رقمنة الإجراءات الإدارية والمالية.
  • تقوية أجهزة الدولة المكلفة بالمراقبة والتتبع والافتحاص.
  • على المستوى التشريعي:

تفادي التشريع المكثف وتبسيط اللغة التشريعية بما يسمح بتلقيها وتملكها بشكل أفضل من قبل المواطنين، وتسهيل الولوج إليها من جهة، أي تشريع أقل لكن أفضل.

  • إدماج مقاربة دراسة الجدوى القبلية للقوانين وأثرها على المواطنين وعلى موارد الدولة.

الخلاصة:

  • لا يجب أن يفهم من مفهوم المحاسبة، المعاقبة أو الزجر، بل التتبع والمتابعة وتوجيه الطاقات بدلا من التحكم فيها. فالمحاسبة تظل إجراءا تدبيريا يهدف إلى التعلم بدلا من العقاب.

لا يجب اعتبار النموذج التنموي إطارا كاملا ومكتملا، بل فقط خطة استراتيجية للنهوض والإقلاع الاقتصادي والتحديث الاجتماعي، وديناميكية متغيرة وفقا للمتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الوطنية والدولية، وهي بذلك خطة قابلة للمراجعة حيث وخلال وبعد تنفيذها.

رابط المقالة

عبد الحميد بنخطاب

أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس


شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.