مقدمة
صدر منشور رئيس الحكومة رقم 2022/16 بتاريخ 03 غشت الحالي أعلن فيه عن ” إطلاق استراتيجية التحول الرقمي في أفق سنة 2030“.
وهي مناسبة لاستذكار ما أورده الميداني في مجمع الأمثال، أن أحد الأشخاص ويدعى مالكا، انشغل بزواجه عن القيام بشؤون إبِلِه، فكلف بذلك أحد إخوته ويدعى سعدا، غير أن هذا الأخير أورد إبل شقيقه دون أن يحسن القيام بالمهمة، مما دعاه إلى مخاطبته بقوله:
أوردها سعد وسعد مشتمل ¨ ما هكذا يا سعد تورد الإبل
يضرب هذا المثل لمن قصّر في أمر من أموره والتمس لقضائه ما لا يفي بالمقصود ولا ينهض وسيلة لتحقيق الهدف المرسوم. والسياق الذي دعانا لاستدعاء البيت.
ووَجْهُ الشاهد هنا هو أن تدبير انطلاق ورش الاستراتيجية الرقمية لا يتم كيفما اتفق، كما أن من يريد أن يورد الإبل لا يفعل ذلك بأي طريقة!.
وستحكمنا في هذه المقالة، كما حكمتنا في مقالات هذه السلسة، الاعتبارات العلمية فقط، مع التنويه بحضور اعتبارات سياسية وازنة ليس هذا المقام مقاما لها، وسنتناول خمس قواعد منهجية تبدو لنا جوهرية لا مندوحة عنها.
- القاعدة الأولى: تقييم ما فات لاستشراف ما هو آت
لقد اعتمدت بلادنا استراتيجية المغرب الرقمي 2009-2013، كما اعتمدت قبلها وبعدها استراتيجيات وبرامج، كان التحول الرقمي من مشمولاتها، وكان آخر هذه “البرامج” ”مذكرة التوجهات العامة للتنمية الرقمية للمغرب في أفق 2025”، التي اقترحتها وكالة التنمية الرقمية على الحكومة أواخر سنة 2019.
وقد صدرت تقارير تقييمية لاستراتيجية المغرب الرقمي من قبل بعض المؤسسات الدستورية كالمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وضعت اليد على مكامن الخلل في بلورة هذه الاستراتيجية وفي تنفيذها، وأنتجت توصيات تصلح تأطيريا للأوراش المماثلة اللاحقة.
لذلك لا يقبل منهجيا مباشرة ورش استراتيجية التحول الرقمي في أفق 2030 دون استدعاء الخلاصات الهامة والجادة الناتجة عن المقاربات المؤسساتية للبرامج العمومية الرقمية، لأن من شأن ذلك الاستدعاء – بلا خلاف – تجويد هذه الاستراتيجية والنأي عن العيوب والأعطاب التي شابت سابقاتها.
- القاعدة الثانية: أي مفهوم للاستراتيجية؟
إذا كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره، فإن الأمر يَصْدُقُ هنا تماما.
إن للاستراتيجية مدلولا علميا ينبغي أن يعرف، وكم يقع الكثيرون في الخلط بين الاستراتيجية والبرنامج، مع أن هناك فرقا بَيِّنًا بين المدلولين يدركه أهل العلم.
إن بلادنا في حاجة فعلا إلى استراتيجية، ممتدة في الزمان، تستند إلى رؤية وتصور، ويمكن التماس أحد أنواع الاستراتيجيات التي تتداعى إليها الدول والمنظمات، ومن أبرزها:
- منجية التحليل الرباعي SWOT:
وتتشكل من أربعة عناصر، نقاط القوة والضعف(البيئة الداخلية) والفرص والتهديدات(البيئة الخارجية)، وتجمعها الحروف الأربعة لكلمة SWOT (Strengths-Weaknesses-Opportunities-Threats).
- منهجية تحليل السداسي PESTEL:
وتقوم على تحليل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئية والقانونية، والكلمة اللاتينية هي الحروف الأولى للألفاظ(Politique-Économique-Sociologique–Technologique–Environnemental- Légal).
وهناك أنواع أخرى من الاستراتيجيات غير النموذجين المشار إليهما.
- القاعدة الثالثة: الإشراف المؤسساتي على ورش بلورة الاستراتجية
إن ورشا مركزيا وذي طبيعة استراتيجية، هو ورش استراتيجية التحول الرقمي، لا يستساغ الإشراف عليه من قبل مسؤول حكومي غير رئيس الحكومة، لأن لهذا الأخير الصفة الدستورية والمؤسساتية التي تخول له تعبئة كل القطاعات الحكومية وتحقيق مشاركة المؤسسات الدستورية المعنية وكل الفاعلين المؤسساتيين الآخرين.
وهذا من شأنه أيضا أن يوفر شروط الانخراط الجاد في تنزيل الاستراتيجية بعد بلورتها، من قبل كل المكونات الحكومية المعنية الأولى بذلك.
وهذا الاختيار لا يتناقض مع إمكان إسناد بعض المهام التنظيمية في إدارة هذا الورش للوزيرة المنتدبة في الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة أو غيرها.
ونذهب أبعد من ذلك بالقول إن أكبر ضمانة مؤسساتية لحسن تفعيل تلك الاستراتيجية هو أن يتولى رئيس الحكومة، رئاسة هيئة عليا يسند إليها تتبع وتنسيق ومتابعة وتقييم ذلك التفعيل.
- القاعدة الرابعة: المقاربة التشاركية
لقد كان من أكبر عيوب بلورة استراتيجية المغرب الرقمي 2009/2013، هو ضعف المقاربة التشاركية، وقد قال ذلك بوضوح المجلس الأعلى للحسابات في تقييمه لهذه الاستراتيجية، حيث لم تعمل الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات المشرفة على الورش بالتنسيق مع وزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة على إشراك باقي المتدخلين والفاعلين، وهو ما خلق متاعب لاحقا في مرحلة التنزيل وجعل التنفيذ متواضعا في النهاية.
واليوم لا مناص من تعبئة كل المعنيين المؤسساتيين في ورش الانطلاقة، بل ويتعين إشراك عموم المواطنين عبر أشكال وصيغ لن تعوز المدبرين، ولم لا يَتَّخِذُ هذا الإشراك صبغةَ حوار وطني، يأخذ من الوقت ما يلزم، ولنا عبرة في الحوارات الوطنية التي عرفتها بلادنا- على قلتها- والتي جسدت بحق المقاربة التشاركية في أبهى صورها، وبقيت نموذجا يحتذى به.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فوجبت إثارة الانتباه أن بلورة الاستراتيجية المأمولة لا تستقيم باللجوء لمكاتب الدراسات لاقتراح مشاريع توضع للتشاور العمومي، إن وضعت، ولتكن لنا الثقة الكافية في الرأسمال البشري الذي تزخر به الإدارة المغربية فهو كفيل بصياغة المشروع المأمول انطلاقا من الأفكار والمشاركات التي ستغني هذا الورش يقينا.
- القاعدة الخامسة: خارطة طريق لبلورة الاستراتيجية
إن إحكام إدارة مرحلة بلورة استراتيجية التحول الرقمي، يقتضي وضع خارطة طريق دقيقة، تتضمن جردا لمختلف الإجراءات التدبيرية، بأفق زمني واضح وبمهام ومسؤوليات دقيقة، وهذه الخارطة ستكون المرجع لقياس التقدم أو التأخر في الإنجاز، ودون ذلك فقد نخبط خبط عشواء دون أن نسلك الطريق المؤدية للنتيجة المرجوة.
خاتمة
إن بلادنا تتطلع لتَمَلُّكِ استراتيجيةٍ للتحول الرقمي، على غرار العديد من بلدان العالم، وما يزال هذا النقص مؤثرا سلبا في تموقعنا الرقمي العالمي، مما تتعين معه المسارعة لتدارك التأخر المسجل، وعدم انتظار حلول سنة 2023، لأنه كانت تقتضي أسبقية هذا الورش إمضاءه خلال السنة الجارية لا التي بعدها.
ومهما يكن، فإنه لا يقبل أن ينجز بمثل المقاربات التي أنجزت بها العديد من المشاريع سابقا والآن، والتي كلف أغلبها بلادنا ما كلف ولم تكن ثمارها في مستوى الانتظارات، بل بمثل ما تناولته هذه المقالة، والمجال المنهجي غني بالأفكار والنماذج يحتاج فقط لإرادة الاستلهام والاغتراف.