منذ عقود ارتبط مفهوم السيادة الوطنية بحماية حدود البلد من أي اختراق للقوى المناوئة، وأي اعتداء على الحدود يعتبر مسا بالسيادة الوطنية. وبعد تطور الطيران والملاحة البحرية، أصبحت حدود الدول تتجاوز الحدود البرية لتشمل البحر والمجال الجوي. فأصبحت سيادة الدولة تشمل سماءها وبحارها إلى جانب ترابها.
السيادة الوطنية ليست إذا مفهوما قارا وجامدا لا يتغير. بل هي سيادة مرتبطة ارتباطا وطيدا بالتحولات التي يشهدها العالم. فعبور صاروخ عابر للقارات سماء بلد ما، يعتبر انتهاكا لسيادة هذا البلد. وإرسال طائرات “درون” فوق المجال الجوي هو كذلك انتهاك لسيادة البلد. ومن حق هذا الأخير تدمير هذه الآليات إن كانت لديه القدرة على ذلك، لأنها انتهكت سيادته والقرار يرجع له بالسماح لها بالعبور أو تدميرها.
لكن مع بروز ما يُعرف بمجتمع المعرفة وتطور تكنولوجيا الرقمنة، أصبح العالم يعرف نقلة نوعية لم تشهد لها البشرية مثيلا على مر العصور. وأصبحت السيادة الوطنية المتمثلة في الحدود البرية والجوية والبحرية غير ذات قيمة أمام السيادة الجديدة أي السيادة الرقمية. كيف ذلك؟
مع تطور التقنيات الحديثة للمعلومات والاتصال، أصبح التحول الرقمي واقعا مفروضا على جميع الدول، لسبب بسيط هو أن تجاهل هذا التحول الرقمي يعني العزلة التامة عن باقي العالم رغم تواجد البلد فوق ترابه وتحت سمائه وبجانب بحره. وتعميم التحول الرقمي على القطاعات الحيوية للدول، يعني تقليص أهمية البنايات والحدود الجغرافية مقابل زيادة أهمية حماية المعطيات الناتجة عن برامج التحول الرقمي.
هذا التحول الرقمي جعل الدولة بكل مؤسساتها ومكوناتها تتحول إلى مجموعة من المعطيات الرقمية تحتاج للتخزين الرقمي. ومع تطور التحول الرقمي، تزداد كمية المعطيات الرقمية، ويتراجع الأسلوب القديم لتسيير البلاد ليفسح المجال لأسلوب جديد قائم على أساس الرقمنة. فجميع القطاعات الحكومية تتحول نحو الرقمنة بما فيها القطاعات الاستراتيجية كالتعليم والصحة والكهرباء والتزويد بالماء الصالح للشرب والدفاع، إلى غير ذلك من القطاعات الاستراتيجية.
ومن أجل تبسيط مفهوم الرقمنة، نكتفي بالقول إن جميع القطاعات الحكومية ستصبح مرتبطة بكومبيوتر يسمح بإنجاز جميع العمليات عن بعد. وأي اختراق للمعطيات المخزنة في الكومبيوتر سيُعرض السيادة الوطنية للخطر قد يصل إلى حدود تهديد الأمن القومي للبلد. على سبيل المثال، اختراق معطيات شبكة الكهرباء يمكن أن يتسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن كل التراب الوطني ليدخل البلد في ظلام لا يعرف كيفية الخروج منه. وعليه، نقول إن السيادة الرقمية هي قدرة الدولة على حماية بياناتها الرقمية وبيانات مؤسساتها ومواطنيها.
السيادة الرقمية في المستقبل القريب هي السيادة الحقيقية التي ستتسبب في الصراعات وربما الحروب بين الدول. وما الصراع الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول الاستئثار بالبيانات والمعطيات التي تجوب العالم، إلا وجها من وجوه الصراع حول السيادة الرقمية.