استخدام التكنولوجيا في إثبات جرائم الحرب

نشر الموقع الإلكتروني ” الغد” مقالة بعنوان: استخدام التكنولوجيا في إثبات جرائم الحرب”، للكاتب د. حمزة العكاليك، نعيد نشرها تعميما للفائدة.

**********************

  أدى التقدم في تكنولوجيا المعلومات إلى تغيير طبيعة التحقيقات في جرائم الحرب بشكل لا رجعة فيه. فالسعي لتحقيق المساءلة عن أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي يتطلب الآن الوصول إلى الأدلة الرقمية والتعامل معها.
فالانتشار العالمي لمنصات، مثل “فيسبوك” و”يوتيوب” و”X”، يعني أن الكثير من هذه الأدلة الرقمية تحتفظ بها شركات التواصل الاجتماعي الأميركية، ويخضع الوصول إليها لقانون الاتصالات المخزنة الأميركي. الا أن الكثير من الأدلة الرقمية التي يتم إنتاجها عالميا مملوكة لشركات خاصة تابعة لوسائل التواصل الاجتماعي مقرها الولايات المتحدة. وهو ما يدخل المحققين الأميركيين في تعقيدات الأطر القانونية الأميركية التي تنظم قدرة منصات، مثل “فيسبوك” أو “يوتيوب” أو “X” على مشاركة المحتوى الرقمي، والتي تتجاهل حقيقة حاجة التحقيقات الدولية لمثل هذه الأدلة في جرائم الحرب اليوم.

ومع ذلك، فإنه بمجرد نشر المواد علنًا على الإنترنت، فمن الممكن للمحقق أن يحتفظ بنسخة منها، ويستخدم إجراءات التوثيق المناسبة، ويؤمنها كدليل رقمي. إلا إنه في كثير من الأحيان، تتم إزالة الأدلة الرقمية الأكثر قيمة من العرض العام قبل أن تصبح في متناول المحقق. ويمكن أن يحدث ذلك من خلال أحد المسارات الآتية: إزالة خوارزمية. تتم إزالة كمية كبيرة بشكل متزايد من المحتوى قبل ظهوره علنًا على الإنترنت؛ حيث يقوم الإشراف على المحتوى القائم على الآلة “بقراءة” المحتوى الذي ينشره المستخدمون ويقوم تلقائيا بفحص المحتوى الذي ينتهك المعايير التي تم تدريب الخوارزمية عليها. ومن هذا المنطلق، تقوم بمسح المحتوى الرقمي لإزالة ما يعد دعاية إرهابية حتى عندما يكون في الواقع دليلا رقميا من منظور جرائم الحرب كما يحدث الآن في غزة؛ حيث إن القوانين الأميركية تعتبر حماس منظمة إرهابية، وعليه، هناك تقييد كبير على نشر المحتوى الذي يدعم وجهة النظر سواء الفلسطينية أو العربية المتضامنة مع أهل غزة.
إضافة إلى ذلك، فإن الإبلاغ عن المستخدم هو الطبقة التالية من نظام الإشراف على المحتوى؛ حيث يحدث ذلك على الرغم من الإزالة الخوارزمية عندما يرى مستخدم منصة الوسائط الاجتماعية المحتوى الذي يعتقد أنه ينتهك معايير النظام الأساسي لمستخدمي المنصة. فيمكن للمستخدم “الإبلاغ” عن هذا المحتوى إلى النظام الأساسي، وطلب إزالته. وفي بعض الحالات، ستتم إزالة المحتوى الذي تم الإبلاغ عنه تلقائيا، إلا أنه في حالات أخرى، سيتم فحصه بواسطة مشرف المحتوى البشري، الذي يحدد ما إذا كان سيتم الاحتفاظ بالمحتوى عبر الإنترنت أم لا. وفي كثير من الأحيان، تحتفظ شركات وسائل التواصل الاجتماعي -وخاصة الشركات الكبرى مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”- بنسخ احتياطية من المواد المحذوفة، لفترات زمنية متفاوتة.
وتعد الفئة الأخيرة من المحتوى بمثابة مجموعة شاملة للمواد التي ليست خاصة ولا عامة بشكل واضح. فالمحتوى في هذه الفئة يقع على نطاق واسع. ففي أحد الأطراف، على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يتصور مستخدما يقوم بإعداد مجموعة “فيسبوك” مقيدة تكون مرئية فقط لأفراد عائلته الأربعة المباشرين.
وعلى الطرف الآخر من الطيف، توجد مجموعة “فيسبوك” دون أي قيود عليها. وبين هذين القطبين يكمن الكثير من القضايا الصعبة. ومع ذلك، من وجهة نظر المحققين الدوليين، فإن غموضها أقل أهمية مما قد يتخيله المرء، لأنه بموجب القانون الأميركي الحالي، فإن وصولهم إلى كل من المحتوى العام المحذوف وشبه العام على حد سواء يخضع لتقدير شركات وسائل التواصل الاجتماعي.
ولأن محققي جرائم الحرب الدولية ليست لديهم سلطة إصدار أمر تفتيش، فإن قدرتهم على الوصول إلى الأدلة الرقمية من شركة التواصل الاجتماعي محدودة. على الرغم من حقيقة أن الأدلة التكنولوجية يمكن أن تكون أداة قيمة في إثبات جرائم الحرب ضد الإنسانية، لكن موثوقيتها تعتمد على عوامل مختلفة. ومن أهمها تحليل الطب الشرعي: فيمكن للأدلة التكنولوجية، مثل صور الأقمار الصناعية، أن توفر توثيقا مرئيا قيما للأحداث والمواقع المتعلقة بجرائم الحرب. ويمكن استخدام هذه الأدلة لتعزيز شهادات الشهود وإنشاء أساس واقعي للتحقيقات.
كما أن الأدلة الرقمية التي تشمل الأدلة التكنولوجية من بيانات من الأجهزة الإلكترونية، أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، أو رسائل البريد الإلكتروني، أو غيرها من الاتصالات الرقمية قد توفر معلومات مهمة حول التخطيط لجرائم الحرب أو تنفيذها. ومع ذلك، يجب التحقق بعناية من صحة هذه الأدلة وسلامتها لضمان موثوقيتها وقبولها من قبل محكمة الجنايات الدولية. إضافة الى تسلسل وترابط الأدلة؛ حيث تعتمد موثوقية الأدلة التكنولوجية أيضا على الحفاظ على سلسلة متواصلة ومناسبة. ويعني ذلك التأكد من جمع الأدلة وتخزينها وتحليلها بما يحفظ سلامتها ويمنع التلاعب بها، إضافة الى أنه غالبا ما تتطلب الأدلة التكنولوجية تحليلا متخصصا من قبل متخصصين ذوي معرفة متخصصة في مجالات، مثل تفسير صور الأقمار الصناعية أو الطب الشرعي الرقمي. وتعد خبرتهم حاسمة في تفسير البيانات بدقة وتقديمها بشكل فعال في الإجراءات القانونية، ومن المهم بمكان الإشارة الى أن الأدلة التكنولوجية يمكن أن توفر رؤى قيمة حول حوادث أو مواقع محددة، إلا أنها قد لا تعكس دائما السياق الكامل أو الدوافع وراء جرائم الحرب؛ حيث من المهم استكمال الأدلة التكنولوجية بأشكال أخرى من التوثيق وشهادات الشهود لبناء قضية شاملة.
ومن خلال استخدام التكنولوجيا لجمع الأدلة وتحليلها ومشاركتها، يمكننا محاسبة الجناة على أفعالهم والمساعدة في تحقيق العدالة للضحايا. فعلى سبيل المثال، في العام 2012، أدانت المحكمة الجنائية الدولية الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لدوره في الحرب الأهلية في سيراليون.
واستخدمت المحكمة الجنائية الدولية عددا من الأدلة لإدانة تايلور، بما في ذلك تصريحاته العامة وغيرها من الأدلة التي تم جمعها من منصات وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث إنه في العام 1999 عندما ألقى تايلور خطابا قال فيه إنه “سوف يحرق” دولة سيراليون بأكملها، وجدت المحكمة الجنائية الدولية أن هذا البيان أظهر أن تايلور كان لديه نية لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي الختام، فإنه من المهم تنفيذ العديد من الإصلاحات التشريعية على المدى القصير، لتعزيز أساليب الإفصاح المبدئية من أجل تسهيل المساءلة، مع ضمان حماية الخصوصية وأمن البيانات. وذلك من خلال حث شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأميركية على تطوير ونشر المبادئ التوجيهية المؤقتة الخاصة بها حول كيفية اتخاذ قرارات الكشف عن الأدلة، مع افتراض أن تساعد على الكشف عن الأدلة العامة وشبه العامة المحذوفة اللازمة لمتابعة المساءلة عن جرائم الإبادة الجماعية الدولية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والعدوان كما يحدث الآن في غزة من قبل دولة الاحتلال.


شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.